في مقالتين كتبهما حمّاد الرحمن وروني ب. ساسميتا، يرسم الكاتبان خريطة التحولات العميقة في صورة القوة الأمريكية بين زمنين متناقضين: صعود زهران ممداني كوجه جديد للمقاومة السياسية في الداخل الأمريكي، ورحيل ديك تشيني كرمز لحقبة الحروب الدائمة التي أعادت تشكيل العالم على مقاس الخوف.
من الهامش إلى مركز القرار
يصف حمّاد الرحمن فوز زهران ممداني، الأمريكي المسلم من أصول هندية إفريقية، في انتخابات رئاسة بلدية نيويورك، كاختراق رمزي في مرآة الإمبراطورية الأمريكية. ممداني، ابن المفكر محمود ممداني والمخرجة ميرا ناير، لم يربح معركة انتخابية فحسب، بل فجّر سردية كاملة تربط بين الرأسمالية العالمية، والتفوّق العرقي، والإفلات الصهيوني من المساءلة. في مدينة تُعد من أكثر فضاءات العالم أمنيّة ورأسمالية، برز ممداني كصوت يهاجم الأسس التي قامت عليها الليبرالية الإمبريالية الأمريكية.
قاد ممداني حملته على أرضية مناهضة لسياسات التقشّف، وداعمة لفلسطين، وساعية لتفكيك المنطق العقابي والربحي الذي حكم الحياة الأمريكية لعقود. تحرّكه لم يكن احتجاجًا عابرًا، بل تمردًا داخل القلعة ذاتها. فالولايات المتحدة التي جرّمت انتقاد إسرائيل وخلطت بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية وجدت نفسها أمام جيل يرفض هذه المعادلة.
انكسار الهالة الأخلاقية للصهيونية
أشار الكاتب إلى أنّ أصواتًا يهودية بارزة مثل نعوم تشومسكي ونورمان فنكلستاين وإيلان بابيه سبقت في التحذير من استغلال الهولوكوست لتبرير العنف الاستعماري. لكن الرأي العام الغربي بدأ يرى التناقض بين المظلومية التاريخية والممارسات الجارية في غزة. انكسر السحر القديم الذي كان يحصّن إسرائيل من النقد، وظهرت تصدّعات في السرد الأخلاقي الذي سوّغ الحروب والاحتلال.
غير أنّ الصمت في الهند، كما يرى الكاتب، يكشف وجهًا آخر من الأزمة. النخبة الليبرالية واليمين الهندوسي تواطآ على تجاهل فوز ممداني، لأنه مسلم يواجه هندوتفا والصهيونية في آن. الهند التي احتفت بصعود كمالا هاريس وريشي سوناك تتجاهل ممداني لأنه لا يقدّم نسخة “مريحة” من الأقليات، بل يجسّد العصيان على المنظومة. في هذا الموقف يتجلى عمق الإسلاموفوبيا داخل ما يُسمّى النخبة التقدمية.
يُصوّر حمّاد الرحمن ممداني بوصفه وريثًا تقليديًا لخطّ مقاوم ممتد من فكر والده الذي فكّك آليات العنف الاستعماري إلى أعمال والدته التي جسّدت المنفى والهوية. فوزه يشير إلى شرخ في مرآة الإمبراطورية، إلى يقظة تاريخية تعلن أنّ السيطرة لم تعد مطلقة، وأنّ المقاومة عادت إلى قلب النظام ذاته.
إرث تشيني وولادة "الحرب إلى الأبد
واعتبر روني ب. ساسميتا في مقاله أن وفاة ديك تشيني، نائب الرئيس الأمريكي الأسبق، هي نهاية فصلٍ مظلم من التاريخ الأمريكي. فقد جسّد تشيني فلسفة القوة التي حوّلت لحظة الهيمنة بعد سقوط الاتحاد السوفييتي إلى مشروع دائم للحرب والهيمنة. رأى في انهيار الخصم فرصة لترسيخ تفوّق واشنطن لا لتقييدها. ومع هجمات 11 سبتمبر، استخدم الخوف ليصوغ عقيدة “الضربة الاستباقية” التي جعلت الغزو وسيلة لبناء العالم.
قاد تشيني دفع إدارة بوش نحو غزو العراق باعتباره اختبارًا لإرادة أمريكا في إعادة تشكيل الشرق الأوسط. لكن النتيجة كانت كارثية: انهار العراق في دوامة طائفية، وانهارت مصداقية الولايات المتحدة، وارتفعت أعداد الضحايا المدنيين، وانهارت شرعية “الحرب من أجل الحرية”. العراق صار المرآة التي انعكست فيها أوهام القوة الإمبراطورية.
الجمهورية تحت المراقب
يُبرز المقال كيف رسّخ تشيني شبكة أمنية غير مسبوقة في تاريخ بلاده: مراقبة جماعية، اغتيالات مستهدفة، وسجون سرّية تتجاوز كل رقابة قانونية. برّر كل ذلك بحجّة حماية الأمن القومي، فخلق دولة دائمة الطوارئ قوضت التوازن بين الحرية والخوف.
كما وسّع مفهوم السلطة التنفيذية إلى حدود لم يعرفها الدستور الأمريكي، وجعل من الرئاسة حصنًا فوق المساءلة. تلك السياسات خلّفت إرثًا مؤسسيًا لم تستطع الإدارات اللاحقة التراجع عنه، وأبقت الديمقراطية الأمريكية أسيرة هاجس الأمن.
العالم بعد تشيني
رحيل تشيني لم يُقابل بمشاعر الحنين بل بتأملٍ ثقيل في الأثر الذي تركه. أوروبا ما زالت تستحضر شروخ الغزو العراقي، والشرق الأوسط يرى فيه رمزًا لزمنٍ وعد بالحرية وأنتج الفوضى، وآسيا وأمريكا اللاتينية تريان في إرثه استمرارًا لسياسة الهيمنة المقنّعة. حتى في الداخل الأمريكي، ظلّ اسمه مرادفًا للتشدد والانغلاق، رغم تحوّله المتأخر إلى صوتٍ مناهض لترامب وداعمٍ لابنته ليز تشيني في مواجهة الشعبوية اليمينية.
ورغم ذلك، يرى بعض أنصاره أنّ صلابته كانت ضرورة في زمنٍ متقلّب، وأنّ رؤيته الواقعية لم تخطئ سوى في الوسائل لا في الغاية. لكنّ التاريخ يكتب بميزان النتائج لا النوايا، والنتائج واضحة: دولة منهكة، وتحالفات متصدعة، وشرق أوسط غارق في العنف، وعالمٍ لا يثق في وعود القوة الأمريكية.
بين ممداني وتشيني: صراع الرؤيتين
يضع المقالان معًا مفارقة عميقة: تشيني مثّل ذروة الإيمان بأن التاريخ يمكن إخضاعه بالقوة، وممداني يرمز إلى عودة الإيمان بأن العدالة يمكن استعادتها بالمقاومة. الأول استخدم الخوف ليصنع النظام، والثاني استخدم الأمل ليزعزع أسسه. بين الرجلين تمتد المسافة بين قرنٍ بُني على الهيمنة وقرنٍ جديدٍ يبحث عن التوازن.
انتصار ممداني لا يُغيّر النظام العالمي في لحظة، لكنه يكشف أنّ الشقوق بدأت تتسع في جدارٍ بُني من الخوف والمال والسرديات الأخلاقية المزيفة. ووفاة تشيني لا تُغلق الباب على فكره، لكنها تدعو إلى مراجعة عميقة لمفهوم الأمن الذي حوّل العالم إلى سجنٍ مفتوح.
خاتمة: مرآتان متقابلتان
ممداني يمثل الجيل الذي يواجه الإمبراطورية من الداخل بخطاب العدالة والمساواة، وتشيني يجسد الجيل الذي اعتقد أن الإمبراطورية يمكن أن تدوم بالقوة وحدها. بين الرجلين، كما يرى الكاتبان، ينعكس وجه أمريكا وهي تتأرجح بين المراجعة والمكابرة، بين الخوف والضمير.
التاريخ لا يغلق دفاتره سريعًا. فكل فوز انتخابي وكل جنازة سياسية هما فصلان في السردية الكبرى للقوة والمقاومة. ومن قلب هذا التناقض، يلوح السؤال الأبدي: هل يمكن للإمبراطورية أن تنظر في مرآتها من دون أن تنكسر؟
https://www.middleeastmonitor.com/20251105-zahran-mamdanis-victory-a-crack-in-the-empires-mirror/
https://www.middleeastmonitor.com/20251105-dick-cheney-and-the-birth-of-americas-forever-war/

